حارس المقابر.....قصة قصيرة
____________________________
اكتنف الظلام الدامس سماء قاحلة غادرت منها النجوم وتراجعت الى مداراتها،تاركة الأرض تغط فى عتمة قاسية ، زاد من قسوتها نقيق الضفادع الشبيه بأوركسترا رديئة العزف،لايقاطع عزفها سوى عواء كلب اعتقد فى نفسه أنه الحارس الأمين على تلك المقابر التى تمركزت فى أقصى شمال الفيوم.
رفع الكلب عقيرته بعواء مخيف، حينما رأى ظلا لشخص محنى الظهر،يتقدم حثيثاً نحوه، آمراً إياه بالكف عن العواء ،ثم ربت على ظهره فى هدوء،قائلاً:- لاتخف يا عنتر،انه انا الأستاذ (فخرى).
نظر إليه الكلب عنتر متفحصاً قسمات وجهه فتيقن انه فعلا فخرى، ذلك الرجل الذى أتى الى المقابر،منذ قرابة العام، بعد أن هجرته زوجته وتبرأمنه ولداه،حين أفرط فى شرب الكحول الذى صار عبقه المخمر جزءا لايتجزأ من كيانه، بعد أن لفق له زميله بدران البهيدى تهمة اختلاس أموال شركة الفيوم لاستصلاح الاراضى،الشركة التى أفنى حياته فى خدمتها ، وآثرها على بيته وزوجته واولاده،فانتشر الاكتئاب كأخطبوط متعدد الاذرع يحيط بنفسه ويجثم على بقايا روحه النقية.
أصيب فخرى بجنون الارتياب،فأصبح الشك ملازماً له ، أصبح مثل صديق السوء الذى يوسوس له حينما يرى وجه شخص آخر، بل قل كالشيطان الذى يأمر تابعا له من بنى البشر فلاتملك نفسه سوى أن تومئ رأسها استجابة لأوامره:-احترس من هذا...لا تطمأن لكلام ذلك ، إنه يريد الغدر بك، وذاك يريد أن يورطك بشئ ما...احذر ...احذر ...احذر
قتلقفته دوامات الاكتئاب التى تعالت وسط بحر شجنه,, المتلاطم الأمواج..فانسحب تدريجياً من الحياة ، وآثر الابتعاد عن بنى جلدته من البشر، فارتحل نحو المقابر ، حيث وجد أن الحياة بجوار الأموات أحسن ألف مرة من العيش بجوار أحياء بضمائر ميتة.
لكن الرجل انتابته حالة غريبة، فعندما تعلن الساعة الثانية عشرة عن حضورها الى مسرح الدنيا، يخرج الموتى من قبورهم ويتجمعون عند (فخرى)،فى البدء كان الامر مرعبا وموحشا بالنسبة له، فهو لم يكلم أمواتا من قبل ،ولطالما سمع عن الزومبى فى قصص الرعب، لكن هؤلاء لم يكونوا زومبى، كانوا أرواحاً حقيقية.
أصغى إلى أحاديثهم بدقة، وكان تجمعهم عنده أشبه ب (group therapy ) ، كل يوم يحكى أحدهم قصته الغابرة فى حياته السابقة، وكأنه ينفض عن كاهله أثقال ترزخ كأصفاد ضخمة ..
كان القاسم المشترك لقصصهم أنهم جميعا فى انتظار العذاب..العذاب الشديد ان صح القول.
أخبره (ضياء الجندى) عن سهراته الحمراء التى أدمنها، عن سربال الشك والعذاب الذى ألقاه فوق جسد زوجته وهى تتآكل كل ليلة فى انتظاره ، عن غرورة وصلفه واعتقاده أنه الذكر الوحيد الذى تعشقه النساء،ثم عن الجرعة الزائدة من الأفيون التى تجرعها ، فدارت به الدنيا ، وأعلنت روحه الاستقلال عن أرض جسده الدنس، فمات صريعا بين أحضان غانية.
وقص عليه (سامح منصور) الألاعيب التى ابدعها طوال حياته المهنية كمحامى (عقر) على حد تعبيره،كيف زور ودلس ، وجلب شهود زور ليفتروا كذبا، كيف كان يمضغ الكذب يوميا وكأنه علكته المحببة.
وحكى له (عثمان السويفى) عن حياته التى بدأت بحفظ القرآن الكريم، ثم الدعوة الى الله ثم غرزت مخالب الشهرة فى عنق نفسه، فتمكنت منها، وصار يعيش بين الناس بشخصية مزدوجة، فهو أمامهم التقى الورع، وفى خلواته شيطان رجيم، حتى أن كلام الله ورسوله كان يخرج من شفتيه دون أن يشعر بوقعه فى نفسه التى ركنت إلى متاع الحياة الدنيا.
استمر فخرى يستمع لقصص أصدقائه الموتى فيحزن لمصير هذا ويأسى لقصة ذلك، ويواسى الآخر بكلمات يعرف أنها لاتجدى نفعاً أمام مصير أسود محتوم.
حتى طالبه الموتى بأن يقص عليهم قصته، فامتلأت قسمات وجهة بالتعجب ، وتسللت ابتسامة باهتة الى شفتيه متسائلاً:
أنا حارس هذه المقابر، أنا هنا لاستمع اليكم فقط ، وليس لأقص عليكم حكايتى.
تبادل الموتى نظرات الدهشة والتعجب،وسأله أحدهم:-
ومن قلدك هذا المنصب الرفيع...منصب "حارس المقابر"؟
أجابه بشئ من الغلظة:- أنا قلدت نفسى ذلك المنصب.
فانفعل أحدهم وطفق يمسك بتلابيب فخرى، قائلا له فى حدة:
الى متى ستنكر حقيقتك يافخرى..الى متى ستظل تعتقد أنك حارس هذه المقابر؟...أنت ميت مثلنا يافخرى..هل تعى ما أقول........أنت ميت يافخرى.
____________________
محمد عبد العزيز
16-2-2013
____________________________
اكتنف الظلام الدامس سماء قاحلة غادرت منها النجوم وتراجعت الى مداراتها،تاركة الأرض تغط فى عتمة قاسية ، زاد من قسوتها نقيق الضفادع الشبيه بأوركسترا رديئة العزف،لايقاطع عزفها سوى عواء كلب اعتقد فى نفسه أنه الحارس الأمين على تلك المقابر التى تمركزت فى أقصى شمال الفيوم.
رفع الكلب عقيرته بعواء مخيف، حينما رأى ظلا لشخص محنى الظهر،يتقدم حثيثاً نحوه، آمراً إياه بالكف عن العواء ،ثم ربت على ظهره فى هدوء،قائلاً:- لاتخف يا عنتر،انه انا الأستاذ (فخرى).
نظر إليه الكلب عنتر متفحصاً قسمات وجهه فتيقن انه فعلا فخرى، ذلك الرجل الذى أتى الى المقابر،منذ قرابة العام، بعد أن هجرته زوجته وتبرأمنه ولداه،حين أفرط فى شرب الكحول الذى صار عبقه المخمر جزءا لايتجزأ من كيانه، بعد أن لفق له زميله بدران البهيدى تهمة اختلاس أموال شركة الفيوم لاستصلاح الاراضى،الشركة التى أفنى حياته فى خدمتها ، وآثرها على بيته وزوجته واولاده،فانتشر الاكتئاب كأخطبوط متعدد الاذرع يحيط بنفسه ويجثم على بقايا روحه النقية.
أصيب فخرى بجنون الارتياب،فأصبح الشك ملازماً له ، أصبح مثل صديق السوء الذى يوسوس له حينما يرى وجه شخص آخر، بل قل كالشيطان الذى يأمر تابعا له من بنى البشر فلاتملك نفسه سوى أن تومئ رأسها استجابة لأوامره:-احترس من هذا...لا تطمأن لكلام ذلك ، إنه يريد الغدر بك، وذاك يريد أن يورطك بشئ ما...احذر ...احذر ...احذر
قتلقفته دوامات الاكتئاب التى تعالت وسط بحر شجنه,, المتلاطم الأمواج..فانسحب تدريجياً من الحياة ، وآثر الابتعاد عن بنى جلدته من البشر، فارتحل نحو المقابر ، حيث وجد أن الحياة بجوار الأموات أحسن ألف مرة من العيش بجوار أحياء بضمائر ميتة.
لكن الرجل انتابته حالة غريبة، فعندما تعلن الساعة الثانية عشرة عن حضورها الى مسرح الدنيا، يخرج الموتى من قبورهم ويتجمعون عند (فخرى)،فى البدء كان الامر مرعبا وموحشا بالنسبة له، فهو لم يكلم أمواتا من قبل ،ولطالما سمع عن الزومبى فى قصص الرعب، لكن هؤلاء لم يكونوا زومبى، كانوا أرواحاً حقيقية.
أصغى إلى أحاديثهم بدقة، وكان تجمعهم عنده أشبه ب (group therapy ) ، كل يوم يحكى أحدهم قصته الغابرة فى حياته السابقة، وكأنه ينفض عن كاهله أثقال ترزخ كأصفاد ضخمة ..
كان القاسم المشترك لقصصهم أنهم جميعا فى انتظار العذاب..العذاب الشديد ان صح القول.
أخبره (ضياء الجندى) عن سهراته الحمراء التى أدمنها، عن سربال الشك والعذاب الذى ألقاه فوق جسد زوجته وهى تتآكل كل ليلة فى انتظاره ، عن غرورة وصلفه واعتقاده أنه الذكر الوحيد الذى تعشقه النساء،ثم عن الجرعة الزائدة من الأفيون التى تجرعها ، فدارت به الدنيا ، وأعلنت روحه الاستقلال عن أرض جسده الدنس، فمات صريعا بين أحضان غانية.
وقص عليه (سامح منصور) الألاعيب التى ابدعها طوال حياته المهنية كمحامى (عقر) على حد تعبيره،كيف زور ودلس ، وجلب شهود زور ليفتروا كذبا، كيف كان يمضغ الكذب يوميا وكأنه علكته المحببة.
وحكى له (عثمان السويفى) عن حياته التى بدأت بحفظ القرآن الكريم، ثم الدعوة الى الله ثم غرزت مخالب الشهرة فى عنق نفسه، فتمكنت منها، وصار يعيش بين الناس بشخصية مزدوجة، فهو أمامهم التقى الورع، وفى خلواته شيطان رجيم، حتى أن كلام الله ورسوله كان يخرج من شفتيه دون أن يشعر بوقعه فى نفسه التى ركنت إلى متاع الحياة الدنيا.
استمر فخرى يستمع لقصص أصدقائه الموتى فيحزن لمصير هذا ويأسى لقصة ذلك، ويواسى الآخر بكلمات يعرف أنها لاتجدى نفعاً أمام مصير أسود محتوم.
حتى طالبه الموتى بأن يقص عليهم قصته، فامتلأت قسمات وجهة بالتعجب ، وتسللت ابتسامة باهتة الى شفتيه متسائلاً:
أنا حارس هذه المقابر، أنا هنا لاستمع اليكم فقط ، وليس لأقص عليكم حكايتى.
تبادل الموتى نظرات الدهشة والتعجب،وسأله أحدهم:-
ومن قلدك هذا المنصب الرفيع...منصب "حارس المقابر"؟
أجابه بشئ من الغلظة:- أنا قلدت نفسى ذلك المنصب.
فانفعل أحدهم وطفق يمسك بتلابيب فخرى، قائلا له فى حدة:
الى متى ستنكر حقيقتك يافخرى..الى متى ستظل تعتقد أنك حارس هذه المقابر؟...أنت ميت مثلنا يافخرى..هل تعى ما أقول........أنت ميت يافخرى.
____________________
محمد عبد العزيز
16-2-2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق